الإدمان: سلوك مكتسب أم مرض؟
الإدمان: سلوك مكتسب أم مرض؟
ظل الأطباء، وإستشاريوا الإدمان، والأطباء النفسيين، وعلماء النفس بل والمدمنون أنفسهم -على مدار المئتي عام المنصرمة أو نحو ذلك- يسعون إلى البحث عن تعريف دقيق لما يقصد بالإدمان وأسبابه. وقد إنصب الجدل على كيفية تأثير الإدمان على الشخص نفسيًا وفسيولوجيًا، مع التركيز بشكل خاص على إكتشاف ما إذا كان الإدمان يعد سلوك مكتسب، أي حالة نتجت عن بيئة غير مناسبة وأخطاء شخصية، أم أنه في واقع الأمر مرض يتعدى قدرة المدمن على السيطرة عليه من خلال قوة الإرادة المحضة وحدها.
ومع إستمرار الجدل بشأن هذا التمييز في مجتمع الإدمان لبعض الوقت، يتقبل الناس اليوم التعريف الذي يصف الإدمان بأنه إضطراب عصبي مزمن يتمثل في إستخدام قهري للمواد المخدرة أو الإنخراط في سلوك ما على الرغم من عواقبه السلبية المستمرة. علاوة على ذلك، إتفق المجتمع الطبي على إعتبار الإدمان مرض يؤثر على نظام المكافآت في المخ ويتصف بضعف الإنتقال العصبي، وخاصة قلة إنتاج الدوبامين. والدوبامين هو مادة النشوه والمكافأة، وتتسبب المواد والسلوكيات المخدرة في وجود الشعور باللذة التي يفتقدها المدمن بسبب قلة إنتاج الدوبامين. ويشير هذان التعريفان وحدهما وبقوة إلى الإدمان بإعتباره مرض أكثر منه سلوك مكتسب.
إن أصحاب الرأي الذين يقولون أن الإدمان سلوك مكتسب يرون أنه بمثابة إستجابة معتادة، وجدير بالذكر أنهم يتناقصون بشكل متزايد. إنهم يدعون أن الإدمان مجرد عادة سيئة، أو سلوك سلبي مكتسب إقترفته يد المدمن، “أو هو النزعة البشرية لتأجيل الألم في مقابل المتعة الفورية”. أضف إلى ذلك، لا يعنينا في هذا الشأن كم الأدلة التي تؤكد هذا الرأي بشكل كبير، ولكننا نرى ضرورة حيوية في أن ينظر عامة الناس إلى الإدمان بإعتباره مرض من الأمراض. حيث يعد إعتبار الإدمان مرضًا من الأمراض من وسم المدمنين بعدم الأخلاقية أو ضعف الإرادة ويسمح لهم بالإستفادة من العلاج المهني والفعال لإدمانهم بسهولة. كما يضفي شيئًا من الشرعية على مجال علاج الإدمان داخل المجتمع الطبي الأكبر حجمًا، ويسمح لمزودي الخدمات العلاجية من الإستفادة من الأموال المخصصة للأبحاث بشكل أفضل، ويعزز التعاون مع المجتمع الطبي، كما يؤدي إلى مزيد من نماذج العلاج الأكثر فعالية، وغير ذلك الكثير.
في عام 1951، مهدت منظمة الصحة العالمية الطريق إلى إعتبار أن الإدمان مرض من الأمراض بإعلانها أن تعاطي الكحوليات يمثل مشكلة طبية حادة. وقد تعدت الجمعية الطبية الأمريكية حدود هذا الإعلان عام 1956 عندما أعلنت أن إدمان الكحوليات والمخدرات الأخرى مرضًا وسارت على خطاها الجمعية الأمريكية للطب النفسي عام 1960.
وحتى يمكن إعتبار الإدمان مرضًا من الأمراض، لابد أن يتوافر فيه المعايير الطبية التالية:
- أساسي – ينشأ المرض بحد ذاته وبعيدًا عن أي عوامل أخرى ومن تلقاء نفسه
- مزمن – غير قابل للإنتهاء أو الشفاء
- تفاقمي – يسوء مع الوقت
- مصحوب بأعراض – يمكن تشخيصه بالطريقة التي يبدو بها في علم وظائف الأعضاء، والسلوك، وأسلوب الحياة الخاصة بالفرد.
- مميت – يمكن أن يؤدي إلى الوفاة إذا لم يتم علاجه
- قابل للعلاج – يمكن أن تؤدي الأدوية والعلاجات المجربة وتغيير أسلوب الحياة إلى القدرة على الحياة دون تعاطي هذه المواد.
ظهرت معظم التطورات الحديثة التي تتناول التعامل مع الإدمان بإعتباره مرض من الأمراض في عام 2007 عندما تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قانون إلى الكونجرس لتغيير إسم المعهد القومي لتعاطي المخدرات (إن آي دي إيه) إلى المعهد القومي لأمراض الإدمان مع إحتفاظه بنفس الإختصارات (إن آي دي إيه). وعند تقديم القانون، أكد السيناتور السابق ونائب الرئيس الحالي جو بايدن على أنه “بتغيير طريقة تحدثنا عن الإدمان، يمكننا أن نغير نظرة الناس إلى الإدمان، وهما الخطوتان الأساسيتان لتجنب الوسمة الإجتماعية التي إرتبطت دومًا بهذا المرض.” وفي ذلك الوقت كان هناك من يرفض رأي هؤلاء الذين لا يزالون ينظرون إلى الإدمان على أنه سلوك مكتسب، وإعتبار ذلك من الآراء البالية التي عفا عليها الزمن، وبدأ الإتفاق على إعتبار الإدمان مرض من الأمراض يكتسب اعترافًا عامًا من قبل الأطباء، والإستشاريين، وعلماء النفس، والمراكز العلاجية بل ومجتمع الإدمان الأكثر حجمًا.
لقد كان مبرر المعهد القومي لأمراض الإدمان بسيط، فالإدمان مرض لأنه يغير العقل. تقول نورا فولكو، مديرة المعهد القومي لأمراض الإدمان، في بحث تصوير المخ الذي أجري بشأن الإدمان:” تؤثر العقاقير التي يسيء إستخدامها على أجهزة متعددة، ولا تقتصر على تلك الأجهزة التي لها علاقة بالتعلم والذاكرة.” وتضيف قائلة أن هذه العقاقير أو المخدرات تعطل مناطق المخ التي تمنع السلوك غير المرغوب فيه:
“ما يحدث في مخ المدمن يشبه حالة من حالات الحرمان. إنه يغير المخ بنقله من تلك الحالة التي يمتلك فيها الشخص حق الإختيار ويفعل ما يريد أن يفعله إلى تلك الحالة التي يشعر أنه بحاجة إلى هذا الفعل.”
علاوة على ذلك، من الأهمية بمكان أن نذكر أن الإدمان، مثله مثل العديد من الأمراض، يمكن أن يؤثر على الأشخاص بدرجة أكثر حدة في عمر معين وعند مستويات معينة من النمو. وتوضح الأبحاث أن الإدمان يمنع أو يعيد تشكيل الخلايا العصبية في القشرة الأمامية من المخ، وهي ما يطلق عليها مقر الحكم، والمنطقة التي لا تتطور بشكل كامل بين البالغين حنى أوائل العشرينيات من العمر. وهكذا يتضح -في ضوء هذه الحقيقة- وجود ذلك الإرتباط بين مرض الإدمان وقابلية الإصابة به بين الشباب.
أما فيما يتعلق بأسباب الإدمان، يراعي الرأي الطبي أن المرض قد يكون نتيجة “لأسباب بيولوجية أو نفسية أو إجتماعية أخرى” بالتزامن مع الإستعداد الوراثي.
يوضح المعهد القومي لأمراض الإدمان أنه في إطار النموذج المرضي للإدمان هناك من يعتقد بوجود الإستعداد الوراثي، بالإضافة إلى ذلك، قد يتطلب أيضًا وجود حدث بيئي. تفسر هذه الإفتراضات نتيجة الدراسات التي تم إجراؤها، والتي تدل على ترجيح وجود تشابه كبير في الإصابة بالإدمان بين التوأمين الذين ينفصلان عن بعضهما عند الميلاد عما هو متوقع في حال عدم وجود مكون وراثي، كما تشير إلى ضعف إحتمال وجود تشابه بين التوأمين في الإصابة بمرض الإدمان مقارنة بالتوأمين اللذين يظلان معًا في بيئات متماثلة.
بارجاع الإدمان إلى سيناريو تقليد السلوك المكتسب بالمشاهدة، نكون بذلك قد هدمنا أساس الآثار المادية والثابتة علميًا للإدمان وتجاهلنا الأسباب التي دفعت أوائل المدمنين لذلك. علاوة على ذلك، يهدد هذا الرأي العلاج نفسه، إذ قد يجد هؤلاء الذين يسعون إلى العلاج والشفاء من الإدمان بعض التهديد بحدوث إنتكاسة إذا ما نظرنا إلى الإدمان بإعتباره سلوك مكتسب وليس مرض بدني يرتبط بمخاطر صحية حقيقية وعواقب تهدد الحياة.
لهذا لا تقتصر أهمية إعتبار الإدمان مرض من الأمراض وليس سلوك مكتسب على تعريف الإدمان وفهم أسبابه فقط، ولكنه يمثل أهمية حيوية أيضًا لتصميم طريقة علاج فعالة واتجاه جديد نحو العلاج في عقل المدمن ومقدم خدمة العلاج الخاص به، بالإضافة إلى القضاء على أي وسمة قد يلصقها عامة الناس بمن يعانون من الإدمان.
Comments are closed.